متابعات – النوارس
بقلم : ضياء الدين محمد أحمد في تقرير نادر نُشر يوم 20 يونيو 2025، كشفت صحيفة الفاينانشال تايمز البريطانية أن الذهب السوداني، الذي بلغ إنتاجه قرابة 80 طناً خلال عام 2024 بقيمة تجاوزت ستة مليارات دولار، لم يُستخدم لإنقاذ الاقتصاد المنهار أو لتأمين الخبز والدواء للضحايا، بل تحوّل إلى شريان رئيسي لتمويل طرفي الحرب: قوات الدعم السريع والقوات المسلحة.
وقد نُقل أكثر من نصف هذا الذهب المهرب إلى دول مثل الإمارات وروسيا، مخترقًا العقوبات، ومدعومًا بشبكات دولية متشابكة تضم شركات أمنية، تجّار مواد كيميائية، ومليشيات محلية تتقاسم المناجم كما تتقاسم الخرائط.
لكن التقرير، رغم أهميته، لا يُمكن قراءته كحدث معزول، بل كذروة لمسار طويل من تحويل الدولة إلى مزرعة، والثروة إلى غنيمة، والمواطن إلى عبد يعمل في ظل قنابل الطيران والموت المجاني. لم يبدأ نهب الذهب اليوم، بل بدأ منذ عقود، حين قررت سلطة الإنقاذ أن تُسلّح الجيش لا ضد العدو الخارجي بل ضد الشعب، وأن تُخصّص 82% من الموارد العامة لمؤسساتها العسكرية والأمنية، تاركة التعليم والصحة والزراعة تتعفن في العراء. من منطق المجاهدين إلى مناجم جبل عامر، من “التمكين” إلى “الجنيد”، لم يكن الذهب ثروة وطنية يومًا، بل كان دومًا هو الجائزة الكبرى في لعبة السلطة.
وحين اندلعت الحرب في أبريل 2023 بين الحليفين السابقين – القوات المسلحة وقوات الدعم السريع – لم تكن بندقية أيّ منهما بلا ذهب. كانت مناجم دارفور والشمالية والنيل الأزرق قد وُضعت منذ سنوات تحت سلطة الشركات القابضة: شركة “الجنيد” التابعة لحميدتي، وشركات “الذهب العسكري” التابعة لمصالح الجيش. هذه ليست شركات اقتصادية، بل أذرع ميدانية للحرب، تنسق مع أطراف خارجية، وتتحصن خلف واجهات بيروقراطية. لا يوجد فيها عامل واحد ينتمي إلى طبقة المعدّنين الحقيقيين، الذين يموتون يوميًا بسبب السيانيد والزئبق، دون أن يملكوا جرامًا من الذهب الذي يُقتلع من الأرض بأيديهم.
النهب المنظّم لا يحدث فقط داخل حدود السودان. فكما أوضح التقرير، فإن أكثر من 90% من تعدين الذهب يتم بوسائل بدائية، ومع ذلك فإن تصديره يجري بطرق احترافية لا يعرفها إلا من يملك النفوذ والسلاح. الإمارات هنا ليست مجرد مشترٍ، بل مركز دولي لغسيل الذهب المهرّب، وممرّ رئيسي لتسليح المليشيات، وشريك فعلي في صناعة الدمار السوداني. وحين تتحدث المؤسسات الغربية عن “العقوبات”، فإنها تقصد أطرافًا هامشية لا تمس البنية الحقيقية للنهب، بل تُعيد ترتيب موازين الربح والخسارة في لعبة كبرى، لا طرف فيها بريء.
لقد تحوّل قطاع الذهب إلى مؤسسة فوق الدولة، لا تخضع لأي نظام ضريبي، ولا تُراقبها أي جهة مدنية، ولا تساهم في إعادة البناء، بل تموّل استمرار الانهيار. هذا القطاع يستورد أدواته من الصين وألمانيا والإمارات، ويُصدّر إنتاجه خارج الموانئ الرسمية، ويُدار من داخل الغرف الأمنية التي تُصدر قرارات الحرب والسلم. كل جرام ذهب يُهرّب من السودان هو رصاصة في صدر لاجئ، أو طائرة مسيّرة تحلّق فوق منزل، أو صفقة جديدة لمليشيا تبحث عن التوسّع. في ظل هذا الواقع، لا معنى لأي حديث عن “التنمية”، فالثروة ذاتها تُستثمر ضد الإنسان.
الحرب لم تُعطّل الاقتصاد، بل أطلقت العنان لاقتصاد من نوع آخر: اقتصاد السلاح، والسمسرة، والشركات الأمنية. ولذلك فإن الصراع ليس سياسيًا بالمعنى التقليدي، بل هو صراع على البنية التحتية للنهب. من يحكم السودان ليس من يجلس في القصر، بل من يتحكم في تدفقات الذهب، والموانئ، وسلاسل الإمداد. وهذا ما يجعل أي مشروع لتسوية سياسية بدون تفكيك المنظومة الاقتصادية المليشياوية ليس أكثر من إعادة تدوير لنفس الكارثة.
لا بد من الاعتراف: إن الذهب السوداني لا يُمول الحرب فقط، بل يُنتجها. ليس هو نتيجة للدم، بل هو سببه. وليس الحل في “ضبط التصدير”، بل في تحرير القطاع بالكامل من قبضة العسكر والمليشيات. هذا لا يتم بتقارير المنظمات، ولا بتوصيات المانحين، بل بفعل جماهيري ثوري، يُعيد تعريف من يملك الثروة، ومن له الحق في التخطيط لها، ومن يُحاسب على مصيرها. ففي بلد تُهدد فيه المجاعة أكثر من 18 مليون شخص، يصبح الذهب أداة لإما التحرر أو الاستعباد. وهذا القرار لن تتخذه الشركات، بل الشعوب.
في السودان، لا يصعد الذهب من باطن الأرض فقط، بل يصعد من بين العظام المهشّمة، من بين صرخات النازحين، من تحت الخيام الممزقة، ومن أعين الأطفال الذين يتعلمون الجوع بدل الحروف. إن كل سبيكة تُصدّر اليوم إلى دبي أو موسكو أو أنقرة، تمر أولاً على أجسادنا، تمر على جبل عامر حيث خيمت المليشيات، على تلودي حيث السيانيد ينخر الأرض، على أبو جبيهة حيث الموت بلا إعلان، على النيل الأزرق حيث الدماغ يُفجَّر لأجل بوصلة.
الذهب السوداني لا يُستخرج كما تُستخرج الثروة في بلدان أخرى. نحن لا نملك بورصة ولا ضمانات، لا نقابات ولا حوافز، لا خطط ولا ميزانيات. نحن نملك بنادق، ودانات، ومليشيات تتقاسم المنجم كما تتقاسم الغنيمة. لا توجد وزارة معادن بل غرفة أمنية. لا توجد شركة وطنية بل “الجنيد”، “زادنا”، “التمكين”، “شركات الدعم”، “شركات الجيش”، “شركات حميدتي”، “شركات الكيزان”… كلها تسميات لذات الفم الذي يلتهمنا.
ومنذ أن وُضعت يد الدولة على موارد السودان لم تُرفع أبداً باسم الشعب، بل نُهبت باسم المعارك. في عهد الإنقاذ، كان يُقال إن الجيش خط أحمر لأن “البلد محتاجة لحماية”. فحصل أن ذهب البلد كله للحماية، وبقي الشعب عارياً. 82% من الميزانية كانت تُصرف على العسكر والأمن والدفاع، والباقي يُوزع كصدقات على قطاع الخدمات، أو يُستثمر في الإعلام الكاذب و”هيئة العلماء”. بعد الثورة، لم تتغيّر المعادلة، بل ازدادت وقاحة. فالآن لم تعد الموارد تُنهب باسم الدين، بل تُنهب باسم “الأمن القومي”، باسم “الحرب على التمرد”، باسم “المرحلة الانتقالية”، و”السيادة”.
وفي الحقيقة، ليست هناك سيادة، بل بيع علني للسودان في سوق النخاسة الدولي. السيادة تُدفن عندما يُنقل الذهب بالطائرات إلى دبي بينما يموت الناس في طوابير الخبز. السيادة تُغتال حين تخرج الطائرات المسيّرة من أبوظبي وأنقرة لتقتل باسم “حماية المؤسسات”، أو “الشرعية”. وما بين كل هذه الشعارات، لا يجد المواطن سوى سيانيد في التراب وغاز في صدره ورصاصة في فمه.
لقد تم تحويل السودان إلى محمية دولية للنهب العسكري–الأمني. الشركات التي تحكم الذهب لا تتبع وزارة المالية، ولا تمر عبر البرلمان، بل تُدار من جنرالات سابقين في غرف العمليات، يوقّعون العقود في الظلام، ويخزنون الأرباح في حسابات لا تُمس. التقارير تُشير، والتلفزيونات تُحلّل، لكن الشعب وحده من يدفع الثمن، ليس فقط بالخبز الغائب، بل بأجساد أبنائه الذين يُساقون للحرب كما تُساق البهائم.
وكل ذلك يحدث بصمت دولي، لأن من يشتري الذهب لا يعترض على من يهرّبه. الشركات الغربية تعرف جيدًا من يزوّدهم بالذهب من السودان، وتعرف أسماء الطيارين، وأرقام الحسابات، لكنهم لا يتحركون. لأن الموت هناك لا يُهدد الاقتصاد العالمي، بل يُغذّيه. الذهب السوداني هو ما يجعل بعض الأبراج تلمع في أبوظبي، وبعض الطائرات تُقلع من إسطنبول، وبعض البنوك تزدهر في جنيف.
من يعتقد أن هذه الحرب محض صراع سياسي، فهو لا يفهم. هذه حرب مناجم، حرب سبائك، حرب مسارات تهريب، حرب على من يملك القدرة على تمويل ميليشيا أطول من الأخرى. هذه حرب تمويل قبل أن تكون حرب أفكار. ولذلك فإن الذين يُفاوضون على وقف إطلاق النار دون الحديث عن من يملك الذهب، وعن من يزوّد من، إنما يفاوضون على هدنة بين لصوص، لا على سلام بين بشر.
هذا الوطن لا يُستعاد بالتسويات ولا بالدعوات الأممية، بل يُستعاد حين تخرج الجماهير وتغلق المناجم، وتحاصر الطائرات، وتعلن أن الذهب ليس ثروتهم بل ملكها. حين تُعلن أن السودان ليس مستودع موارد لإمارات الطغيان ولا مختبرًا لطائرات تركيا، بل أرض تُزرع بالكرامة لا بالدانات.
وسنكتب هذا المقال تلو الآخر، وسنقلب الحجر تلو الحجر، حتى يُقال لنا كفى، وحتى يقال للمجرمين: لن تُشترى بعد اليوم طائرة بدمي.